تحميل كتاب

كتاب السيرة النبوية – النسخة الاصلية


الحكم في سائر العرب
قد تقدم ذكر هجرات القبائل القحطانية والعدنانية، وأنها اقتسمت البلاد العربية فيما بينها، فما كان من هذه القبائل بالقرب من الحيرة كانت تبعًا لملك العرب بالحيرة، وما كان منها في بادية الشام كانت تبعًا للغساسنة، إلا أن هذه التبعية كانت اسمية لا فعلية، وأما ما كان منها في البوادى في داخل الجزيرة فكانت حرة مطلقة .
والحقيقة أن هذه القبائل كانت تختار لأنفسها رؤساء يسودونها، وأن القبيلة كانت حكومة مصغرة، أساس كيانها السياسى الوحدة العصبية، والمنافع المتبادلة في حماية الأرض ودفع العدوان عنها .
وكانت درجة رؤساء القبائل في قومهم كدرجة الملوك، فكانت القبيلة تبعًا لرأي سيدها في السلم والحرب، لا تتأخر عنه بحال، وكان له من الحكم والاستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوى؛ حتى كان بعضهم إذا غضب غضب له ألوف من السيوف لا تسأله : فيم غضب، إلا أن المنافسة في السيادة بين أبناء العم كانت تدعوهم إلى المصانعة بالناس من بذل الندى وإكرام الضيف والكرم والحلم، وإظهار الشجاعة والدفاع عن الغيرة، حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس، ولاسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان، وحتى تسمو درجتهم عن مستوى المنافسين .
وكان للسادة والرؤساء حقوق خاصة، فكانوا يأخذون من الغنيمة المِرْباع والصَّفي والنَّشيطة والفُضُول، يقول الشاعر :
لك المِرْبَاع فينا والصَّفَايا ** وحُكْمُك والنَّشِيطة والفُضُول
والمرباع : ربع الغنيمة، والصفي : ما كان يصطفيه الرئيس، أي يختاره لنفسه قبل القسمة، والنشيطة : ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى بيضة القوم . والفضول : ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما .

(1/18)


الحالة السياسية
بعد أن ذكرنا حكام العرب يجمل بنا أن نذكر جملة من أحوالهم السياسية حتى يتضح الوضع، فالأقطار الثلاثة التي كانت مجاورة للأجانب كانت حالتها السياسية في تضعضع وانحطاط لا مزيد عليه . فقد كان الناس بين سادة وعبيد، أو حكام ومحكومين، فالسادة ـ ولاسيما الأجانب ـ كان لهم كل الغُنْم، والعبيد عليهم كل الغُرْم، وبعبارة أوضح : إن الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولات إلى الحكومات، والحكومات كانت تستخدمها في ملذاتها وشهواتها، ورغائبها، وجورها، وعدوانها . أما الناس فكانوا في عمايتهم يتخبطون، والظلم ينحط عليهم من كل جانب، وما في استطاعتهم التذمر والشكوى، بل كانوا يسامون الخسف والجور والعذاب ألوانًا ساكتين، فقد كان الحكم استبداديا، والحقوق ضائعة مهدورة .
وأما القبائل المجاورة لهذه الأقطار فكانوا مذبذبين تتقاذفهم الأهواء والأغراض، مرة يدخلون في أهل العراق، ومرة يدخلون في أهل الشام .
وكانت أحوال القبائل داخل الجزيرة مفككة الأوصال، تغلب عليها المنازعات القبلية والاختلافات العنصرية والدينية، حتى قال ناطقهم :
وما أنا إلا من غَزَِّية إن غَوَتْ ** غويت، وإن ترشد غزية أرشد
ولم يكن لهم ملك يدعم استقلالهم، أو مرجع يرجعون إليه، ويعتمدون عليه وقت الشدائد .
وأما حكومة الحجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظرة تقدير واحترام، ويرونها قادة وسَدَنة المركز الدينى، وكانت تلك الحكومة في الحقيقة خليطًا من الصدارة الدنيوية والحكومية والزعامة الدينية، حكمت بين العرب باسم الزعامة الدينية، وحكمت في الحرم وما والاه بصفتها حكومة تشرف على مصالح الوافدين إلى البيت، وتنفذ حكم شريعة إبراهيم، وكانت لها من الدوائر والتشكيلات ما يشابه دوائر البرلمان ـ كما أسلفنا ـ ولكن هذه الحكومة كانت ضعيفة لا تقدر على حمل العبء كما وضح يوم غزو الأحباش .

(1/19)


ديانات العرب
كان معظم العرب يدينون بدين إبرهيم عليه السلام منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزيرة العرب، فكانوا يعبدون الله ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف، حتى طال عليهم الأمد ونسوا حظًا مما ذكروا به، إلا أنهم بقى فيهم التوحيد وعدة شعائر من هذا الدين، حتى جاء عمرو بن لُحَيٍّ رئيس خزاعة، وكان قد نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين، فأحبه الناس ودانوا له، ظنًا منهم أنه من أكابر العلماء وأفاضل الأولياء .
ثم إنه سافر إلى الشام، فرآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك وظنه حقًا؛ لأن الشام محل الرسل والكتب، فقدم معه بهُبَل وجعله في جوف الكعبة، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله فأجابوه، ثم لم يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛ لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم .
وكان هبل من العقيق الأحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب، وكان أول صنم للمشركين وأعظمه وأقدسه عندهم .
ومن أقدم أصنامهم مَناة، كانت لهُذَيْل وخزاعة، وكانت بالمُشَلَّل على ساحل البحر الأحمر حذو قُدَيْد، والمشلل : ثنية جبل يهبط منها إلى قديد . ثم اتخذوا اللات في الطائف، وكانت لثقيف، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى، ثم اتخذوا العُزَّى بوادى نخلة الشامية فوق ذات عِرْق، وكانت لقريش وبني كنانة مع كثير من القبائل الأخرى .
وكانت هذه الأصنام الثلاثة أكبر أوثان العرب، ثم كثر فيهم الشرك، وكثرت الأوثان في كل بُقعة .
ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن، فأخبره أن أصنام قوم نوح ـ ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا ـ مدفونة بجدة، فأتاها فاستثارها، ثم أوردها إلى تهامة، فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل، فذهبت بها إلى أوطانها .
فأما ود : فكانت لكلب، بجَرَش بدَوْمَة الجندل من أرض الشام مما يلى العراق، وأما سواع : فكانت لهذيل بن مُدْرِكة بمكان يقال له : رُهَاط من أرض الحجاز، من جهة الساحل بقرب مكة، وأما يغوث : فكانت لبني غُطَيف من بني مراد، بالجُرْف عند سبأ، وأما يعوق : فكانت لهمدان في قرية خَيْوان من أرض اليمن، وخيوان : بطن من همدان، وأما نسر : فكانت لحمير لآل ذى الكلاع في أرض حمير .
وقد اتخذوا لهذه الطواغيت بيوتًا كانوا يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانت لها سدنة وحجاب، وكانت تهدى لها كما يهدى للكعبة، مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها .
وقد سارت قبائل أخرى على نفس الطريق، فاتخذت لها أصنامًا آلهة وبنت لها بيوتًا مثلها، فكان منها ذو الخَلَصَة لدَوْس وخَثْعَم وبُجَيْلَة، ببلادهم من أرض اليمن، بتَبَالة بين مكة واليمن، وكانت فِلْس لبني طيئ ومن يليها بين جبلى طيئ سلمى وأجأ . وكان منها ريام، بيت بصنعاء لأهل اليمن وحمير، وكانت منها رضاء، بيت لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد، مناة بن تميم، وكان منها الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل، ولإياد بِسَنْدَاد .
وكان لدَوْس أيضًا صنم يقال له : ذو الكفين، ولبني بكر ومالك وملكان أبناء كنانة صنم يقال له : سعد، وكان لقوم من عذرة صنم يقال له : شمس، وكان لخولان صنم يقال له : عُمْيانِس .
وهكذا انتشرت الأصنام ودور الأصنام في جزيرة العرب، حتى صار لكل قبيلة ثم في كل بيت منها صنم، أما المسجد الحرام فكانوا قد ملأوه بالأصنام، ولما فتح رسول الله صلىالله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده حتى تساقطت، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت، وكان في جوف الكعبة أيضًا أصنام وصور، منها صنم على صورة إبراهيم، وصنم على صورة إسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وبيدهما الأزلام، وقد أزيلت هذه الأصنام ومحيت هذه الصور أيضًا يوم الفتح .
وقد تمادى الناس في غيهم هذا حتى يقول أبو رجاء العُطاردى رضي الله عنه : كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه، ثم طفنا به .
وجملة القول : إن الشرك وعبادة الأصنام كانا أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية الذين كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم عليه والسلام .

(1/20)


أما فكرة الشرك وعبادة الأصنام فقد نشأت فيهم على أساس أنهم لما رأوا الملائكة والرسل والنبيين وعباد الله الصالحين من الأولياء والأتقياء والقائمين بأعمال الخير ـ لما رأوهم أنهم أقرب خلق الله إليه، وأكرمهم درجة وأعظمهم منزلة عنده، وأنهم قد ظهرت على أيديهم بعض الخوارق والكرامات، ظنوا أن الله أعطاهم شيئًا من القدرة والتصرف في بعض الأمور التي تختص بالله سبحانه وتعالى، وأنهم لأجل تصرفهم هذا ولأجل جاههم ومنزلتهم عند الله يستحقون أن يكونوا وسطاء بين الله سبحانه وتعالى وبين عامة عباده، فلا ينبغى لأحد أن يعرض حاجته على الله إلا بواسطة هؤلاء؛ لأنهم يشفعون له عند الله، وأن الله لا يرد شفاعتهم لأجل جاههم، كذلك لا ينبغى القيام بعبادة الله إلا بواسطة هؤلاء؛ لأنهم بفضل مرتبتهم سوف يقربونه إلى الله زلفي .
ولما تمكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا الاعتقاد اتخذوهم أولياء، وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمهم صورًا وتماثيل، إما حقيقية تطابق صورهم التي كانوا عليها، وإما خيالية تطابق ما تخيلوا لهم من الصور في أذهانهم ـ وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالأصنام .
وربما لم ينحتوا لهم صورًا ولا تماثيل، بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتهم ومواضع نزولهم واستراحتهم أماكن مقدسة، وقدموا إليها النذور والقرابين، وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات، وهذه الأضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالأوثان .
أما عبادتهم لهذه الأصنام والأوثان فكانت لهم فيها تقاليد وأعمال ابتدع أكثرها عمرو بن لحى، وكانوا يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لحى فهو بدعة حسنة، وليس بتغيير لدين إبراهيم \، فكان من جملة عبادتهم للأصنام والأوثان أنهم :
1 ـ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها . . ويهتفون بها، ويستغيثونها في الشدائد، ويدعونها لحاجاتهم، معتقدين أنها تشفع عند الله، وتحقق لهم ما يريدون .
2 ـ وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها، ويتذللون عندها، ويسجدون لها .
3 ـ وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابين، فكانوا يذبحون وينحرون لها على أنصابها، كما كانوا يذبحون بأسمائها في أي مكان .
وهذان النوعان من الذبح ذكرهما الله تعالى في قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، وفي قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ]4 ـ وكان من أنواع التقرب إلى هذه الأصنام والأوثان أنهم كانوا يخصون لها شيئا من مآكلهم ومشاربهم حسبما يبدو لهم، وكذلك كانوا يخصون لها نصيبا من حرثهم وأنعامهم، ومن الطرائف : أنهم كانوا يخصون من ذلك جزءًا لله أيضًا . وكانت عندهم عدة أسباب ينقلون لأجلها إلى الأصنام ما كان لله، ولكن لم يكونوا ينقلون إلى الله ما كان لأصنامهم بحال، قال تعالى : { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الأنعام : 136 ] .
5 ـ وكان من أنواع التقرب إليها النذر في الحرث والأنعام قال تعالى : { وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 138 ] .
6 ـ وكانت منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى .
قال سعيد بن المسيب : البحيرة : التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس . والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شىء . والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تثنى بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر . والحامى : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود [ العشر من الإبل ] فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل، فلم يحمل عليه شىء وسموه الحامى .

(1/21)

[ays_poll id=4]
الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى