كتاب السيرة النبوية – النسخة الاصلية ,الكتاب : الرحيق المختوم. المؤلف :صفي الرحمن المباركفوري. مؤلف كتاب الرحيق المختوم أحد كتب السيرة النبوية ، هو صفي الرحمن بن عبد الله بن محمد أكبر بن محمد علي بن عبد المؤمن بن فقيرالله المباركفوري الأعظمي. أحد علماء الحديث في الهند. تميز بعلمه الغزير وتواضعه الجم، وقد شارك في ندوات ومحاضرات في مختلف أرجاء الهند وفي الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وكثير من الدول الأخرى. ومن أهم كتبه السيرة النبوية ” الرحيق المختوم “.
مقدمة كتاب السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أفضل الرسل وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدي بهديه إلى يوم الدين .
وبعد :
فهذا الكتاب هو الذي أسهمت به في مسابقة السيرة النبوية العالمية التي نظمتها رابطة العالم الإسلامي، وأعلنت عنها عقب أول مؤتمر للسيرة النبوية الذي عقدته دولة باكستان في شهر ربيع الأول عام 1396هـ .
وقد قدر الله لهذا الكتاب من القبول ما لم أكن أرجوه وقت الكتابة، فقد نال المركز الأول في المسابقة، وأقبل عليه الخاصة والعامة إقبالا يغتبط عليه .
وكان من حديث هذا الكتاب أني لم أطلع على إعلان الرابطة عن المسابقة في وقته، ولما أخبرت به بعد حين لم أمِلْ إلى الإسهام فيها، بل رفضت هذا الاقتراح رفضًا كليًا إلا أن القدر ساقني إلى ذلك . وكان آخر موعد لتلقي بحوث المسابقة واستقبالها عند الرابطة أول شهر محرم من العام القادم 1397هـ، أي نحو تسعة أشهر من وقت الإعلان، وقد ضاعت مني من ذلك عدة أشهر، والمدة الباقية لم تكن تكفي لإعداد مثل هذا الكتاب، ولكن لما عزمت على ذلك استعنت الله سبحانه وتعالى، وشمرت عن ساق الجد، حتى تم إنجازه وإرساله في الموعد .
وكنت أعاني ـ مع ضيق الوقت والاشتغال بأعمال أخري ـ قلة المصادر، وعدم القدرة على مراجعة كل ما هو موجود، وكانت الدقة مطلوبة عندي بصفة خاصة مع تجنب الحشو والزوائد، والإحاطة بالموضوع بقدر الإمكان، وقد مررت بأماكن شعرت فيها بشيء من الفجوة والفراغ، وبحاجة إلى إضافات لم تكن في مستطاعي في ذلك الحين . فكل ما كان بالإمكان هو التسويد السريع لما هو موجود، ثم نسخه أو استنساخه بغير مراجعة أو تنقيح .
وقد بقيت في النفس رغبة إلى ملء تلك الفجوة والفراغ وإضافة بعض الزيادات فيما بعد، ولكن مضت الأيام والأعوام ولم يقدر لي ذلك، حتى تَقادم العَهْدُ وانفلت الزمامُ، وكنت أحيانًا أثبت في الكتاب أشياء، وربما أقدم أو أؤخر، أو أضيف أو أعدل أشياء، وهي وإن لم تكن عين ما كانت تتحدث به النفس عند التأليف، لكنها مهمة ومفيدة في السيرة إن شاء الله، وكذلك اطلعت على مصادر قديمة أغنتني إلى حد كبير عما كنت أحَلْتُ إليه من المراجع الحديثة، فأدخلت كل ذلك في هذه الطبعة بتوفيق الله .
وقد كنت أرجو ظهور بعض الملحوظات العلمية القيمة، أستفيد بها في صلب بعض الموضوعات، لكن الذي وصلني منها لا يمس الجوهر، وإنما يمس بعض الأمور الجانبية التي لا تقدم ولا تؤخر، يضاف إلى ذلك أن معظمها خطأ واضح، بل تَخَبُّطٌ غريب لم يكن يُرْجَي مثله من عامة الدارسين، فضلًا عن أصحاب التخصص .
وهذه الطبعة التي تتضمن هذه الإضافات والتغييرات تكون أفضل وأكثر فائدة من الطبعات السابقة إن شاء الله، وهي الطبعة الشرعية الوحيدة مع تلك الإضافات والتعديلات . وقد طبع الكتاب قبل ذلك من جهة الرابطة عدة طبعات، كما طبعه بعض الإخوان بإذن من المؤلف، ولكن هناك عشرات الطبعات كلها غير شرعية قام بها الناشرون بغير إذن من المؤلف ولا إشعار له، مستغلين سمعة الكتاب . وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى أنه احتفظ بجميع حقوق الكتاب لنفسه، فهداهم الله للحق، ولإيصال الحقوق إلى أهلها قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .
وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلم .
18 ربيع الأول 1415هـ
26 أغسطس 1994م
صفي الرحمن المباركفوري
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
(1/1)
كلمة معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أدي الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن كل من تبع سنته وعمل بها إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورضاك يا أرحم الراحمين .
أما بعد :
فإن السنة النبوية المطهرة ـ وهي العطاء المتجدد والزاد الباقي إلى يوم الدين، والتي يتسابق المتسابقون، ويتنافس المتنافسون إلى الحديث عنها وكتابة الكتب والأسفار في مواضيعها منذ بعث صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الساعة ـ تضع للمسلمين النموذج العملي والبرنامج الواقعي لما ينبغي أن يكون عليه سلوكهم وأفعالهم وأقوالهم وعلاقاتهم بربهم، ثم بأهلهم وعشيرتهم وإخوانهم وأمتهم والناس أجمعين .
وقد قال الله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب : 21 ] .
وقالت السيد عائشة ـ رضوان الله عليها ـ عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان خلقه القرآن ) .
فلا ريب إذن أنه لابد لمن أراد النجاة من هذه الدنيا باتباع المنهج الرباني في جميع شئون آخرته ودنياه وأن يتأسي بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بالسيرة النبوية تفكرًا وتدبرًا على أنها هذا المنهج الرباني القويم عاشه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعًا عمليّا في جميع شئون الحياة، ففيها الهدي والرشاد للقادة والمقودين والحكام والمحكومين والمرشدين والموجهين والمجاهدين، وفيها الأسوة الحسنة في جميع المجالات : في السياسة والحكم والاقتصاد والمال والاجتماع والعلاقات الإنسانية والأخلاق الفاضلة والعلاقات الدولية، فما أحرى المسلمين اليوم ـ وقد انحدروا في مهاوي الجهالة والتخلف لابتعادهم عن هذه المنهج ـ أن يعودوا إلى صوابهم وأن يقدموا السيرة النبوية في مناهجهم الدراسية ومنتدياتهم المختلفة على أنها ليست للمتعة الفكرية وحسب، بل فيها طريق العودة إلى الله، وفيها إصلاح الناس وفلاحهم، فهي الأسلوب العلمي لترجمة كتاب الله عزّ وجلّ سلوكًا وأخلاقًا، حتى يصبح المؤمن محتكمًا إلى شريعة الله سبحانه وتعالي ومحكمًا لها في جميع شئون الناس .
وهذا الكتاب [ الرحيق المختوم ] جهد رائع وعمل مشكور لمؤلفه فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري الذي استجاب لدعوة رابطة العالم الإسلامي في مسابقة السيرة النبوية التي نظمتها عام 1396هـ، ففاز بالجائزة الأولى كما هو مذكور في مقدمة الطبعة الأولى لفضيلة الشيخ محمد على الحركان ـ رحمه الله ـ الأمين العام السابق لرابطة العالم الإسلامي تغمده الله برحمته وجزاه عنا خير الجزاء .
وقد كان إقبال الناس عظيمًا وثناؤهم عطرًا على هذا الكتاب، وقد نفدت نسخ الطبعة الأولى بالكامل، وطلب مني التقديم للطبعة الثالثة فاستجبت له بهذه المقدمة الوجيزة، سائلًا المولي عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين نفعًا يؤدي إلى تغيير واقعهم إلى الأفضل، وأن يعيد للأمة الإسلامية مجدها المفقود ومكانتها في قيادة الأمم عملًا بقوله عز وجل : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [ آل عمران : 110 ] .
وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين، رسول الهدى ومرشد الإنسانية إلى طريق النجاة والفلاح، وعلى آله وصحبه وسلم .
والحمد لله رب العالمين .
د . عبد الله عمر نصيف
الأمين العالم لرابطة العالم الإسلامي [ سابقًا ]نائب الرئيس لمجلس الشوري
المملكة العربية السعودية
(1/2)
كلمة معالي الشيخ محمد بن على الحركان ـ رحمه الله ـ الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، خالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وصلي الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل أجمعين، بشّر وأنذر، ووعد وأوعد، أنقذ الله به البشر من الضلالة، وهدي الناس إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور .
وبعد :
فلما أعطى الله سبحانه وتعالي لرسوله الشفاعة والدرجة الرفيعة، وهدي المسلمين إلى محبته، وجعل اتباعه من محبته تعالى فقال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، فكان هذا من الأسباب التي صيرت القلوب تهفو إلى محبته صلى الله عليه وسلم، وتتلمس الأسباب التي توثق الصلة فيما بينها وبينه صلى الله عليه وسلم . فمنذ فجر الإسلام والمسلمون يتسابقون إلى إبراز محاسنه، ونشر سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم، وسيرته صلى الله عليه وسلم هي أقواله وأفعاله وأخلاقه الكريمة، فقد قالت السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها : ( كان خلقه القرآن ) ، والقرآن كتاب الله وكلماته التامة، ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكملهم وأحقهم بمحبة خلق الله جميعًا .
اقرأ أيضا: محبة النبي ﷺ
ولم يَزَلِ المسلمون متمسكين بهذه المحبة الغالية التي انبثق عنها المؤتمر الإسلامي الأول للسيرة النبوية الشريفة الذي عقد بباكستان سنة 1396هـ، حيث أعلنت الرابطة في هذا المؤتمر عن جوائز مالية مقدارها مائة وخمسون ألف ريال سعودي توزع على أحسن خمسة بحوث في السيرة النبوية بالشروط الآتية :
1 ـ أن يكون البحث متكاملًا مع ترتيب الحوادث التاريخية حسب وقوعها .
2 ـ أن يكون جيدًا ولم يسبق نشره من قبل .
3 ـ أن يذكر الباحث جميع المخطوطات والمصادر العلمية التي اعتمد عليها في كتابة البحث .
4 ـ أن يكتب الباحث ترجمة كاملة ومفصلة عن حياته مع ذكر مؤهلاته العلمية ومؤلفاته إن وجدت .
5 ـ أن يكتب البحث بخط واضح، ويستحسن نسخه على الآلة الكاتبة .
6 ـ تقبل البحوث باللغة العربية واللغات الحية الأخري .
7 ـ يبدأ قبول البحوث من غرة ربيع الثاني 1396هـ، وينتهي موعد القبول بغرة محرم 1397هـ .
8 ـ تسلم البحوث إلى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في ظرف مختوم، وتضع الأمانة عليه رقمًا تسلسليًا خاصًا .
9 ـ تقوم بفحص البحوث لجنة عليا من كبار العلماء في هذ الشأن .
فكان هذا الإعلان حافزًا لتسابق العلماء الذين وهبهم الله حب رسوله صلى الله عليه وسلم، واستعدت رابطة العالم الإسلامي لاستقبال هذه البحوث باللغات العربية والإنجليزية والأردية وأية لغة أخري .
وبدأ الإخوان الكرام في إرسال بحوثهم بهذه اللغات، وقد بلغ عددها واحدًا وسبعين ومائة بحث منها :
84 بحثًا باللغة العربية، 64 بحثًا باللغة الأردية، 21 بحثًا باللغة الإنجليزية، وبحث واحد فقط باللغة الفرنسية، وبحث واحد فقط باللغة الهوساوية .
وقد كونت الرابطة لجنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائزة، وقد كان الفائزون بالجوائز حسب الترتيب الآتي :
1 ـ الفائز بالجائزة الأولى الشيخ صفي الرحمن المباركفوري من الجامعة السلفية بالهند، ومقدار جائزته خمسون ألف ريال سعودي .
2 ـ الفائز بالجائزة الثانية الدكتور ماجد على خان من الجامعة الملية الإسلامية نيودلهي، الهند، ومقدار جائزته أربعون ألف ريال سعودي .
3 ـ الفائز بالجائزة الثالثة الدكتور نصير أحمد ناصر رئيس الجامعة الإسلامية بباكستان، ومقدار جائزته ثلاثون ألف ريال سعودي .
4 ـ الفائز بالجائزة الرابعة الأستاذ حامد محمود محمد منصور ليمود من جمهورية مصر العربية، ومقدار جائزته عشرون ألف ريال سعودي .
5 ـ الفائز بالجائزة الخامسة الأستاذ عبد السلام هاشم حافظ من المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ومقدار جائزته عشرة آلاف ريال سعودي .
وقد أعلنت الرابطة أسماء الفائزين في المؤتمر الإسلامي الآسيوي الأول الذي عقد في كراتشي في شهر شعبان سنة 1398هـ . كما أعلن عن ذلك في جميع الصحف .
(1/3)
وبهذه المناسبة أقامت الأمانة العامة للرابطة بمقرها بمكة المكرمة حفلًا كبيرًا تحت إشراف صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة، نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة، حيث تفضل سموه بتوزيع الجوائز على أصحابها، وذلك صباح يوم السبت الموافق 12 ربيع الأول سنة 1399هـ . وفي هذا الحفل أعلنت الأمانة العامة أنها ستقوم بطبع البحوث الفائزة ونشرها بعدة لغات، وتنفيذًا لذلك ها هي ذي تضع بين يدي القارئ الكريم باكورة طبعات تلك البحوث، وهو بحث الشيخ/ صفي الرحمن المباركفوري، من الجامعة السلفية بالهند؛ لأنه الفائز بالجائزة الأولي، وستوالي طبع بقية البحوث الفائزة حسب ترتيبها، سائلين الله سبحانه وتعالي أن يتقبل منا جميعًا أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه نعم المولي ونعم النصير .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
محمد بن على الحركان
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
(1/4)
كلمة المؤلف
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعل فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا . اللّهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجّر لهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا .
وبعد :
فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العالم الإسلامي أعلنت عقب مؤتمر السيرة النبوية الذي عقد في باكستان في شهر ربيع الأول من سنة 1396هـ عن تنظيم مسابقة علمية عالمية؛ لتقديم أحسن بحث في موضوع السيرة النبوية ـ على صاحبها ألف ألف صلاة وسلام وتحية ـ وذلك تنشيطًا للكاتبين، وتنسيقا لجهودهم الفكرية . وإني أري أن هذا العمل له قيمة كبيرة ربما لا يحيط بوصفه البيان . فإن السيرة النبوية والأسوة المحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصلاة والسلام ـ إذا لاحظناها بعين الدقة والاعتبار هي المنبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حياة العالم الإسلامي وسعادة المجتمع البشري .
وإن من سعادتي وحسن حظي أن أقدم بحثًا أسهم به في تلك المسابقة المباركة، ولكن أين أنا حتى ألقي ضوءًا على حياة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم . وإنما أنا رجل يري لنفسه كل السعادة والفلاح أن يقتبس من نوره، حتى لا يتهالك في دياجير الظلمات، بل يحيا وهو من أمته، ويموت وهو من أمته، ويغفر الله له ذنوبه بشفاعته .
ومن منهجي في هذا الكتاب ـ عدا ما جاء في إعلان الرابطة ـ أني قررت سلوك سبيل الاعتدال، متجنبًا التطويل الممل والإيجاز المخل، وقد وجدت المصادر تختلف فيما بينها حول كثير مما يتعلق بالأحداث اختلافًا لا يحتمل الجمع والتوفيق، فاخترت سبيل الترجيح، وأثبت في الكتاب ما ترجح لدي بعد التدقيق في الدراسة والنقد، إلا أني طويت ذكر الدلائل والوجوه؛ لأن ذلك يفضي إلى طول غير مطلوب .
أما بالنسبة لقبول الروايات وردها فقد استفدت في ذلك مما كتبه الأئمة المتقنون، واعتمدت عليهم فيما حكموا به من الصحة والحسن والضعف؛ إذ لم أجد وقتًا يكفي للخوض في هذا المجال .
وقد أشرت في بعض المواضع إلى بعض الدلائل ووجوه الترجيح، وذلك حينما خِفْتُ الاستغراب ممن يقرأ الكتاب، أو رأيت شبه الاتفاق فيما بين الأولين والآخرين على خلاف ما هو الصواب . والله ولي التوفيق .
اللهم قدر لي الخير في الدنيا والآخرة، إنك أنت الغفور الودود، ذو العرش المجيد .
صفي الرحمن المباركفوري.
بنارس ـ الهند.
(1/5)
كتب مهم مرشح لك : كتاب البداية والنهاية – كتاب الشمائل المحمدية – كتاب صيد الخاطر
ما ورد في كتاب السيرة النبوية عن العرب، الأرض والشعب، الحكم والاقتصاد، الديانة والاجتماع
موقع العرب وأقوامها
إن السيرة النبوية ـ على صاحبها الصلاة والسلام ـ هي في الحقيقة عبارة عن الرسالة التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشرى قولًا وفعلًا، وتوجيها وسلوكًا، وقلب بها موازين الحياة، فبدل مكان السيئة الحسنة، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللّه، حتى عدل خط التاريخ وَغيَّر مجرى الحياة في العالم الإنساني، ولا يتم إحضار هذه الصورة الرائعة إلا بعد المقارنة بين البيئة التي سبقت هذه الرسالة وبين ما آلت إليه بعدها .
وهذا يقتضي تقديم فصول موجزة عن أقوام العرب وتطوراتها قبل الإسلام، وعن تاريخ الحكومات والإمارات والنظم القبلية التي كانت سائدة في ذلك الزمان، مع صور من الديانات والمِلَل والنِّحَل والعادات والتقاليد، والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
وقد خصصنا لكل من ذلك هذا الباب، وإليكم تلك الفصول :
(1/6)
موقع العرب
كلمة العرب تنبيء عن الصحارى والقِفَار، والأرض المُجْدِبة التي لا ماء فيها ولا نبات . وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب، كما أطلق على قوم قَطَنُوا تلك الأرض واتخذوها موطنا لهم .
وجزيرة العرب يحدها غربًا البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وشرقًا الخليج العربى وجزء من بلاد العراق الجنوبية، وجنوبًا بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند، وشمالًا بلاد الشام وجزء من بلاد العراق، على اختلاف في بعض هذه الحدود، وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلاثمائة ألف ميل مربع .
ولجزيرة العرب أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي؛ فإنها في وضعها الداخلي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب؛ ولأجل هذا الوضع صارت الجزيرة حصنًا منيعًا لم يستطع الأجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم . ولذلك نرى سكان الجزيرة أحرارًا في جميع الشئون منذ أقدم العصور، مع أنهم كانوا مجاورين لإمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لولا هذا السد المنيع .
وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم، وتلتقى به برًا وبحرًا، فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قارة إفريقية، وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوربا، والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم؛ ومن ثم آسيا الوسطى وجنوبها والشرق البعيد، وكذلك تلتقي كل قارة بالجزيرة بحرًا، وترسى سفنها وبواخرها على ميناء الجزيرة رأسًا .
ولأجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزيرة وجنوبها موئلًا للأمم، ومركزًا لتبادل التجارة، والثقافة، والديانة، والفنون .
(1/7)
أقوام العرب
وأما أقوام العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام؛ بحسب السلالات التي ينحدرون منها :
1 ـ العرب البائدة : وهم العرب القدامى الذين انقرضوا تمامًا ولم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم، مثل : عاد، وثمود، وطَسْم، وجَدِيس، وعِمْلاق، وأُمَيْم، وجُرْهُم، وحَضُور، ووَبَار، وعَبِيل، وجاسم، وحَضْرَمَوت، وغيرها .
2 ـ العرب العاربة : وهم العرب المنحدرة من صلب يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان، وتسمى بالعرب القحطانية .
3 ـ العرب المستعربة : وهي العرب المنحدرة من صلب إسماعيل عليه السلام، وتسمى بالعرب العدنانية .
أما العرب العاربة ـ وهي شعب قحطان ـ فمَهْدُها بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها من ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . فاشتهرت منها قبيلتان : حِمْيَر بن سبأ، وكَهْلان بن سبأ، وأما بقية بنى سبأ ـ وهم أحد عشر أو أربعة عشر بطنًا ـ فيقال لهم : السبئيون، وليست لهم قبائل دون سبأ .
أ ـ فأما حمير فأشهر بطونها :
1 ـ قُضَاعة : ومنها بَهْراء وَبِلىٌّ والقَيْن وكَلْب وعُذْرَة ووَبَرَة .
2 ـ السَّكاسِك : وهم بنو زيد بن وائلة بن حمير، ولقب زيد : السكاسك، وهي غير سكاسك كِنْدة الآتية في بنى كَهْلان .
3 ـ زيد الجمهور : ومنها حمير الأصغر، وسبأ الأصغر، وحضور، وذو أصبح .
ب ـ وأما كَهْلان فأشهر بطونها :
هَمْدان، وألْهَان، والأشْعَر، وطيئ، ومَذْحِج [ ومن مذحج : عَنْس والنَّخْع ] ، ولَخْم [ ومن لخم : كندة، ومن كندة : بنو معاوية والسَّكُون والسكاسك ] ، وجُذَام، وعاملة، وخَوْلان، ومَعَافِر، وأنمار [ ومن أنمار : خَثْعَم وبَجِيلَةَ، ومن بجيلة : أحْمَس ] والأزْد، [ ومن الأزد : الأوس، والخزرج، وخُزَاعة، وأولاد جَفْنَة ملوك الشام المعروفون بآل غسان ] .
وهاجرت بنو كهلان عن اليمن، وانتشرت في أنحاء الجزيرة، يقال : كانت هجرة معظمهم قبيل سَيْل العَرِم حين فشلت تجارتهم لضغط الرومان وسيطرتهم على طريق التجارة البحرية، وإفسادهم طريق البر بعد احتلالهم بلاد مصر والشام .
ويقال : بل إنهم هاجروا بعد السيل حين هلك الحرث والنسل بعد أن كانت التجارة قد فشلت، وكانوا قد فقدوا كل وسائل العيش، ويؤيده سياق القرآن { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ سورة سبأ : 15 : 19 ]ولا غرو إن كانت هناك ـ عدا ما تقدم ـ منافسة بين بطون كهلان وبطون حمير أدت إلى جلاء كهلان، فقد يشير إلى هذا بقاء حمير مع جلاء كهلان .
ويمكن تقسيم المهاجرين من بطون كهلان إلى أربعة أقسام :
1 ـ الأزْد :
وكانت هجرتهم على رأى سيدهم وكبيرهم عمران بن عمرو مُزَيْقِياء، فساروا يتنقلون في بلاد اليمن ويرسلون الرواد، ثم ساروا بعد ذلك إلى الشمال والشرق . وهاك تفصيل الأماكن التي سكنوا فيها بعد الرحلة نهائيًا :
نزل عمران بن عمرو في عُمَان، واستوطنها هو وبنوه، وهم أزْد عُمَان .
واستوطنت بنو نصر بن الأزد تُهامة، وهم أزد شَنُوءة .
وعَطَف ثَعْلَبة بن عمرو مزيقياء نحو الحجاز، فأقام بين الثعلبية وذى قار، ولما كبر ولده وقوى ركنه سار نحو المدينة، فأقام بها واستوطنها، ومن أبناء ثعلبة هذا : الأوس والخزرج، ابنا حارثة بن ثعلبة .
وتنقل منهم حارثة بن عمرو ـ وهو خزاعة ـ وبنوه في ربوع الحجاز، حتى نزلوا بمر الظهران، ثم افتتحوا الحرم فقطنوا مكة وأجلوا سكانها الجراهمة .
وسار جَفْنَة بن عمرو إلى الشام فأقام بها هو وبنوه، وهو أبو الملوك الغساسنة؛ نسبة إلى ماء في الحجاز يعرف بغسان، كانوا قد نزلوا بها أولًا قبل انتقالهم إلى الشام .
وانضمت البطون الصغيرة إلى هذه القبائل في الهجرة إلى الحجاز والشام، مثل كعب بن عمرو، والحارث بن عمرو، وعوف بن عمرو .
2 ـ لَخْم وجُذَام :
انتقلوا إلى الشرق والشمال، وكان في اللخميين نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة .
3 ـ بنو طَيِّئ :
ساروا بعد مسير الأزد نحو الشمال حتى نزلوا بالجبلين أجأ وسلمى، وأقاموا هناك، حتى عرف الجبلان بجبلى طيئ .
4 ـ كِنْدة :
(1/8)
نزلوا بالبحرين، ثم اضطروا إلى مغادرتها فنزلوا بـ [ حضرموت ] ، ولاقوا هناك ما لاقوا بالبحرين، ثم نزلوا نجدًا، وكونوا هناك دولة كبيرة الشأن، ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها .
وهناك قبيلة من حمير مع اختلاف في نسبتها إليه ـ وهي قضاعة ـ هجرت اليمن واستوطنت بادية السماوة من مشارف العراق، واستوطن بعض بطونها مشارف الشام وشمالي الحجاز .
وأما العرب المستعربة، فأصل جدهم الأعلى ـ وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام ـ من بلاد العراق، من مدينة يقال لها : [ أر ] على الشاطئ الغربي من نهر الفرات، بالقرب من الكوفة، وقد جاءت الحفريات والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه المدينة، وعن أسرة إبراهيم عليه السلام، وعن الأحوال الدينية والاجتماعية في تلك البلاد .
ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هاجر منها إلى حاران أو حَرَّان، ومنها إلى فلسطين، فاتخذها قاعدة لدعوته، وكانت له جولات في أرجائها وأرجاء غيرها من البلاد، وفي إحدى هذه الجولات أتى إبراهيم عليه السلام على جبار من الجبابرة، ومعه زوجته سارة، وكانت من أحسن النساء، فأراد ذلك الجبار أن يكيد بها، ولكن سارة دعت اللّه تعالى عليه فرد اللّه كيده في نحره، وعرف الظالم أن سارة امرأة صالحة ذات مرتبة عالية عند اللّه، فأخدمها هاجر اعترافًا بفضلها، أو خوفًا من عذاب اللّه، ووهبتها سارة لإبراهيم عليه السلام .
ورجع إبراهيم عليه السلام إلى قاعدته في فلسطين، ثم رزقه اللّه تعالى من هاجر ابنه إسماعيل، وصار سببًا لغيرة سارة حتى ألجأت إبراهيم إلى نفي هاجر مع ولدها الرضيع ـ إسماعيل ـ فقدم بهما إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز، وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم الذي لم يكن إذ ذاك إلا مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فوضعهما عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ورجع إلى فلسطين، ولم تمض أيام حتى نفد الزاد والماء، وهناك تفجرت بئر زمزم بفضل اللّه، فصارت لهما قوتا وبلاغًا إلى حين . والقصة معروفة بطولها .
وجاءت قبيلة يمانية ـ وهي جُرْهُم الثانية ـ فقطنت مكة بإذن من أم إسماعيل . يقال : إنهم كانوا قبل ذلك في الأودية التي بأطراف مكة، وقد صرحت رواية البخاري أنهم نزلوا مكة بعد إسماعيل، وقبل أن يشب، وأنهم كانوا يمرون بهذا الوادى قبل ذلك .
وكان إبراهيم عليه السلام يرتحل إلى مكة ليطالع تركته بها، ولا يعلم بالضبط عدد هذه الرحلات، إلا أن المصادر المعتمدة حفظت لنا أربعة منها :
1 ـ فقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه أرى إبراهيم في المنام أنه يذبح إسماعيل، فقام بامتثال هذا الأمر : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 103 : 107 ]وقد ذكر في سِفْر التكوين أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، وسياق القصة يدل على أنها وقعت قبل ميلاد إسحاق؛ لأن البشارة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها .
وهذه القصة تتضمن رحلة واحدة ـ على الأقل ـ قبل أن يشب إسماعيل، أما الرحلات الثلاث الأخر فقد رواها البخاري بطولها عن ابن عباس مرفوعًا، وملخصها :
2ـ أن إسماعيل عليه السلام لما شب وتعلم العربية من جُرْهُم، وأنفسهم وأعجبهم زوجوه امرأة منهم، وماتت أمه، وبدا لإبراهيم أن يطالع تركته، فجاء بعد هذا الزواج، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه وعن أحوالهما، فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لإسماعيل أن يغير عتبة بابه، وفهم إسماعيل ما أراد أبوه، فطلق امرأته تلك وتزوج امرأة أخرى [ وهي ابنة مُضَاض بن عمرو، كبير جرهم وسيدهم على قول الأكثر ] .
3 ـ وجاء إبراهيم عليه السلام مرة أخرى بعد أن تزوج إسماعيل هذه الزوجة الثانية، فلم يجده فرجع إلى فلسطين بعد أن سأل زوجته عنه وعن أحوالهما، فأثنت على اللّه بخير، فأوصى إلى إسماعيل أن يُثَبِّتَ عَتَبَة بابه .
4 ـ ثم جاء إبراهيم عليه السلام بعد ذلك فلقى إسماعيل، وهو يَبْرِى نَبْلا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، وكان لقاؤهما بعد فترة طويلة من الزمن، قلما يصبر فيها الأب الكبير الأواه العطوف عن ولده، والوالد البار الصالح الرشيد عن أبيه، وفي هذه المرة بنيا الكعبة، ورفعا قواعدها، وأذَّن إبراهيم في الناس بالحج كما أمره الله .
وقد رزق الله إسماعيل من ابنة مُضَاض اثنى عشر ولدًا ذكرًا،وهم : نابت أو نبايوط،وقَيْدار، وأدبائيل، ومِِبْشام، ومِشْماع، ودوما، ومِيشا، وحدد، وتيما، ويَطُور، ونَفيس، وقَيْدُمان .
(1/9)
وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، سكنت كلها في مكة مدة من الزمان، وكانت جل معيشتهم إذ ذاك التجارة من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ومصر، ثم انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان، إلا أولاد نابت وقيدار .
وقد ازدهرت حضارة الأنباط ـ أبْناء نابت ـ في شمال الحجاز، وكونوا دولة قوية عاصمتها البتراء ـ المدينة الأثرية القديمة المعروفة في جنوب الأردن، وقد دان لهذه الدولة النبطية من بأطرافها، ولم يستطع أحد أن يناوئها حتى جاء الرومان وقضوا عليها .
وقد جنحت طائفة من المحققين من أهل العلم بالأنساب إلى أن ملوك آل غسان وكذا الأنصار من الأوس والخزرج إنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل، وبقاياهم في تلك الديار .
وإليه مال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه، فقد عقد بابًا عنوانه : [ نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ] ، واستدل عليه ببعض الأحاديث، ورجح الحافظ ابن حجر في شرحه أن قحطان من آل نابت بن إسماعيل عليه السلام .
وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة، يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده مَعَدّ، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها . وعدنان هو الجد الحادى والعشرون في سلسة النسب النبوى، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول : ( كذب النسابون ) ، فلا يتجاوزه، وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان؛ مضعفين للحديث المشار إليه، ولكنهم اختلفوا في هذا الجزء من النسب اختلافا لا يمكن الجمع بين أقوالهم، وقد مال المحقق الكبير العلامة القاضى محمد سليمان المنصورفورى ـ رحمه الله ـ إلى ترجيح ما ذكره ابن سعد ـ والذي ذكره الطبرى والمسعودى وغيرهما في جملة الأقوال ـ وهو أن بين عدنان وبين إبراهيم عليه السلام أربعين أبا بالتحقيق الدقيق . وسيأتى .
وقد تفرقت بطون مَعَدّ من ولده نَزَار ـ قيل : لم يكن لمعد ولد غيره ـ فكان لنزار أربعة أولاد، تشعبت منهم أربعة قبائل عظيمة : إياد وأنمار وربيعة ومُضَر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة : ضُبَيْعَة وأسد، ومن أسد : عَنْزَة وجَدِيلة، ومن جديلة : القبائل الكثيرة المشهورة مثل : عبد القيس، والنَّمِر، وبنو وائل الذين منهم بكر وتَغْلِب، ومن بنى بكر : بنو قيس وبنو شيبان وبنو حنيفة وغيرها . أما عنزة فمنها آل سعود ملوك المملكة العربية السعودية في هذا الزمان .
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين : قَيْس عَيْلان بن مضر، وبطون إلياس ابن مضر، فمن قيس عيلان : بنو سليم، وبنو هوازن، وبنو ثقيف، وبنو صَعْصَعَة، وبنو غَطَفان . ومن غطفان : عَبْس، وذُبْيان، وأشْجَع،وأعْصُر .
ومن إلياس بن مُضَر : تميم بن مرة، وهُذَيْل بن مُدرِكة، وبنو أسد بن خزيمة، وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، من أشهرها : جُمَح وسَهْم وعَدِىّ ومخزوم وتَيْم وزُهْرَة، وبطون قُصَىّ بن كلاب، وهي : عبد الدار بن قصى،وأسد بن عبد العزى بن قصى، وعبد مناف بن قصى .
وكان من عبد مناف أربع فصائل : عبد شمس، ونَوْفَل، والمطلب، وهاشم، وبيت هاشم هو الذي اصطفي الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اصطفي من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفي من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفي من بنى كنانة قريشًا، واصطفي من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم ) .
وعن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير القبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا ) . وفي لفظ عنه : ( إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا وخيرهم نفسًا ) .
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب .
فهاجرت عبد القيس، وبطون من بكر بن وائل، وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها .
وخرجت بنو حنيفة بن على بن بكر إلى اليمامة فنزلوا بحُجْر، قَصَبة اليمامة، وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر، فأطراف سواد العراق فالأُبُلّةُ فَهِيت .
وأقامت تغلب بالجزيرة الفراتية، ومنها بطون كانت تساكن بَكْرًا . وسكنت بنو تميم ببادية البصرة .
وأقامت بنو سليم بالقرب من المدينة، من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين، إلى ما ينتهي إلى الحرة .
وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة، بينهم وبين تيماء ديار بُحْتُرٍ من طيئ، وبينهم وبين الكوفة خمس ليال .
(1/10)
وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقى بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصيِّ ابن كلاب، فجمعهم، وكون لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم .
(1/11)
الحكم والإمارة في العرب من كتاب السيرة النبوية
كان حكام جزيرة العرب عند ظهور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين :
1ـ ملوك مُتَوَّجُون ـ إلا أنهم في الحقيقة كانوا غير مستقلين .
2ـ رؤساء القبائل والعشائر ـ وكان لهم من الحكم والامتياز ما كان للملوك المتوجين، ومعظم هؤلاء كانوا على تمام الاستقلال، وربما كانت لبعضهم تبعية لملك متوج .
والملوك المتوجون هم : ملوك اليمن، وملوك مشارف الشام [ وهم آل غسان ] وملوك الحيرة، وما عدا هؤلاء من حكام الجزيرة لم تكن لهم تيجان . وفيما يلى موجز عن هؤلاء الملوك والرؤساء .
(1/12)
الملك باليمن
من أقدم الشعوب التي عرفت باليمن من العرب العاربة قوم سبأ، وقد عثر على ذكرهم في حفريات [ أور ] بخمس وعشرين قرنا قبل الميلاد، ويبدأ ازدهار حضارتهم ونفوذ سلطانهم وبسط سيطرتهم بأحد عشر قرنا قبل الميلاد .
ويمكن تقسيم أدوارهم حسب التقدير الآتى :
1 ـ ما بين 1300 إلى 620 ق . م
عرفت دولتهم في هذه الفترة بالدولة المعينية، ظهرت في الجَوْف؛ أى السهل الواقع بين نجران وحضرموت، ثم أخذت تنمو وتتسع وتسيطر وتزدهر حتى بلغ نفوذها السياسى إلى العُلا ومَعَان من شمالي الحجاز .
ويقال : إن مستعمراتها وصلت إلى خارج بلاد العرب، وكانت التجارة هي صلب معيشتهم، ثم إنهم بنوا سد مأرب الذي له شأن كبير في تاريخ اليمن، والذي وفر لهم معظم خيرات الأرض، { حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } [ الفرقان : 18 ]وكان ملوكهم في هذه الفترة يلقبون بـ [ مكرب سبأ ] وكانت عاصمتهم مدينة [ صِرْوَاح ] التي توجد أنقاضها على بعد 50 كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من مدينة [ مأرب ] ، وعلى بعد 142 كيلو مترًا شرقى صنعاء، وتعرف باسم [ خُرَيْبة ] . ويقدر عدد هؤلاء الملوك ما بين 22 و 26 ملكًا .
2 ـ ما بين 620 ق . م إلى سنة 115 ق . م
وعرفت دولتهم في هذه الفترة بدولة سبأ، وقد تركوا لقب [ مكرب ] وعرفوا بـ [ ملوك سبأ ] ، واتخذوا [ مأرب ] عاصمة لهم بدل [ صرواح ] وتوجد أنقاض مأرب على بعد 192 كيلو مترًا شرقي صنعاء .
3 ـ منذ سنة 115 ق . م إلى سنة300 م
وعرفت الدولة في هذه الفترة بالدولة الحميرية الأولى؛ لأن قبيلة حمير غلبت واستقلت بمملكة سبأ، وقد عرف ملوكها بـ [ ملوك سبأ وذى ريدان ] ، وهؤلاء الملوك اتخذوا مدينة [ ريدان ] عاصمة لهم بدل مدينة [ مأرب ] ، و تعرف [ ريدان ] باسم ظفار، وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من [ يريم ] . وفي هذا العهد بدأ فيهم السقوط والانحطاط، فقد فشلت تجارتهم إلى حد كبير لبسط الأنباط سيطرتهم على شمال الحجاز أولًا، ثم لغلبة الرومان على طريق التجارة البحرية بعد نفوذ سلطانهم على مصر وسوريا وشمالى الحجاز ثانيًا، ولتنافس القبائل فيما بينها ثالثًا . وهذه العناصر هي التي سببت في تفرق آل قحطان وهجرتهم إلى البلاد الشاسعة .
4 ـ منذ سنة 300م إلى أن دخل الإسلام في اليمن
عرفت الدولة في هذه الفترة بالدولة الحميرية الثانية، وعرف ملوكها بـ [ ملوك سبأ وذى ريدان وحضرموت ويمنت ] ، وقد توالت على هذه الدولة الاضطرابات والحوادث، وتتابعت الانقلابات والحروب الأهلية التي جعلتها عرضة للأجانب حتى قضى على استقلالها . ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن، وبمعونتهم احتلت الأحباش اليمن لأول مرة سنة 340 م؛ مستغلين التنافس بين قبيلتى همدان وحمير، واستمر احتلالهم إلى سنة 378 م . ثم نالت اليمن استقلالها، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب، حتى وقع السيل العظيم الذي ذكره القرآن بسيل العرم في سنة 450م، أو 451 م . وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب .
وفي سنة 523م قاد ذو نُوَاس اليهودى حملة منكرة على المسيحيين من أهل نجران، وحاول صرفهم عن المسيحية قسرًا، ولما أبوا خدّ لهم الأخدود وألقاهم في النيران، وهذا الذي أشار إليه القرآن في سورة البروج بقوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } الآيات [ البروج : 4 ] .
وكان هذا الحادث هو السبب في نقمة النصرانية الناشطة إلى الفتح والتوسع تحت قيادة أباطرة الرومان من بلاد العرب، فقد حرضوا الأحباش، وهيأوا لهم الأسطول البحرى، فنزل سبعون ألف جندى من الحبشة، واحتلوا اليمن مرة ثانية، بقيادة أرياط سنة 525 م، وظل أرياط حاكمًا من قبل ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة بن الصباح الأشرم ـ أحد قواد جيشه ـ سنة 549م، ونصب نفسه حاكمًا على اليمن بعد أن استرضى ملك الحبشة وأرضاه، وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهدم الكعبة، وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل . وقد أهلكه الله بعد عودته إلى صنعاء عقب وقعة الفيل، فخلفه على اليمن ابنه يَكْسُوم، ثم الابن الثانى مسروق، وكانا ـ فيما يقال ـ شرا من أبيهما، وأخبث سيرة منه في اضطهاد أهل اليمن وقهرهم وإذلالهم .
أما أهل اليمن فإنهم بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس، وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوهم عن البلاد، ونالوا الاستقلال في سنة 575 م بقيادة معديكرب سيف بن ذى يزن الحميرى، واتخذوه ملكًا لهم، وكان معديكرب أبقى معه جمعًا من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه، فاغتالوه ذات يوم، وبموته انقطع الملك عن بيت ذى يزن، وصارت اليمن مستعمرة فارسية تتعاقب عليها ولاة من الفرس، وكان أولهم وهرز، ثم المرزبان بن وهرز، ثم ابنه التينجان، ثم خسرو بن التينجان، ثم باذان، وكان آخر ولاة الفرس، فإنه اعتنق الإسلام سنة 628م، وبإسلامه انتهي نفوذ فارس على بلاد اليمن .
(1/13)
الملك بالحيرة
كانت الفرس تحكم بلاد العراق وما جاورها منذ أن جمع شملهم قوروش الكبير ( 557 ـ 529 ق . م ) ولم يكن أحد يناوئهم، حتى قام الإسكندر المقدونى سنة 326 ق . م فهزم ملكهم دارا وبددهم وخضد شوكتهم، حتى تجزأت بلادهم، وتولاها ملوك عرفوا بملوك الطوائف، وقد ظل هؤلاء الملوك يحكمون البلاد مجزأة إلى سنة 230م . وفي عهد هؤلاء الملوك هاجر القحطانيون، واحتلوا جزءًا من ريف العراق، ثم لحقهم من هاجر من العدنانيين فزاحموهم حتى سكنوا جزءًا من الجزيرة الفراتية .
وأول من ملك من هؤلاء المهاجرين هو مالك بن فَهْم التَّنُوخى من آل قحطان، وكان منزله الأنبار، أو مما يلى الأنبار، وخلفه أخوه عمرو بن فهم في رواية . وجَذِيمة بن مالك بن فهم ـ الملقب بالأبْرش والوَضَّاح ـ في رواية أخرى .
وعادت القوة مرة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة 226 م ـ فإنه جمع شمل الفرس، واستولى على العرب المقيمين على تخوم ملكه، وكان هذا سببا في رحيل قضاعة إلى الشام، ولكن دان له أهل الحيرة والأنبار .
وفي عهد أردشير كانت ولاية جذيمة الوضاح على الحيرة وسائر مَنْ ببادية العراق والجزيرة من ربيعة ومضر، وكأن أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحكم العرب مباشرة، ويمنعهم من الإغارة على تخوم ملكه، إلا أن يملك عليهم رجلًا منهم له عصبية تؤيده وتمنعه، ومن جهة أخرى يمكنه الاستعانة بهم على ملوك الرومان الذين كان يتخوفهم، وليكون عرب العراق أمام عرب الشام الذين اصطنعهم ملوك الرومان، وكان يبقى عند ملك الحيرة كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعين بها على الخارجين على سلطانه من عرب البادية، وكان موت جذيمة حوالى سنة 268 م .
وبعد موت جذيمة ولى الحيرة والأنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى [ 268ـ 288م ] وهو أول ملوك اللخميين، وأول من اتخذ الحيرة مقرًا له، وكان في عهد كسرى سابور بن أردشير، ثم لم يزل الملوك من اللخميين من بعده يتولون الحيرة حتى ولى الفرس قُبَاذ بن فيروز [ 448ـ 531م ] وفي عهده ظهر مَزْدَك، وقام بالدعوة إلى الإباحية، فتبعه قباذ كما تبعه كثير من رعيته، ثم أرسل قباذ إلى ملك الحيرة ـ وهو المنذر بن ماء السماء [ 512ـ 554 م ] ـ يدعوه إلى اختيار هذا المذهب الخبيث، فأبي عليه ذلك حمية وأنفة، فعزله قباذ، وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته إلى المذهب المزدكى .
وخلف قباذ كسرى أنوشروان [ 531ـ 578م ] وكان يكره هذا المذهب جدًا، فقتل المزدك وكثيرًا ممن دان بمذهبه، وأعاد المنذر إلى ولاية الحيرة، وطلب الحارث بن عمرو، لكنه أفلت إلى دار كلب، فلم يزل فيهم حتى مات .
واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبه حتى كان النعمان بن المنذر [ 583 ـ605 م ] فإنه غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى، فأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه، فخرج النعمان حتى نزل سرا على هانئ بن مسعود سيد آل شيبان، وأودعه أهله وماله، ثم توجه إلى كسرى، فحبسه كسرى حتى مات . وولى على الحيرة بدله إياس بن قَبِيصة الطائى، وأمره أن يرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تسليم ما عنده، فأبي ذلك هانئ حمية، وآذن الملك بالحرب، ولم يلبث أن جاءته مرازبة كسرى وكتائبه في موكب إياس، ودارت بين الفريقين معركة هائلة عند ذى قار، انتصر فيها بنو شيبان وانهزمت الفرس هزيمة نكراء . وهذا أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم، وهو بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم .
واختلف المؤرخون في تحديد زمن هذه المعركة، فقيل : هو بعد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل، وأنه صلى الله عليه وسلم ولد لثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة على الحيرة . وقيل : قبل النبوة بقليل ـ وهو الأقرب . وقيل : بعد النبوة بقليل . وقيل : بعد الهجرة . وقيل : بعد بدر . وقيل غير ذلك .
وولى كسرى على الحيرة بعد إياس حاكمًا فارسيًا اسمه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد، وظل يحكم 17 عاما [ 614ـ 631م ] ثم عاد الملك إلى آل لخم سنة 632م، فتولى منهم المنذر بن النعمان الملقب بالمعرور، ولكن لم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم عليه خالد بن الوليد بعساكر المسلمين .
(1/14)
الملك بالشام
في العهد الذي ماجت فيه العرب بهجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشام وسكنت بها، وكانوا من بنى سُلَيْح بن حُلْوان الذين منهم بنو ضَجْعَم ابن سليح المعروفون باسم الضجاعمة، فاصطنعهم الرومان؛ ليمنعوا عرب البرية من العبث، وليكونوا عدة ضد الفرس، وولوا منهم ملكًا، ثم تعاقب الملك فيهم سنين، ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهَبُولة، ويقدر زمنهم من أوائل القرن الثانى الميلادى إلى نهايته تقريبًا، وانتهت ولايتهم بعد قدوم آل غسان، الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيدهم وانتصروا عليهم، فولتهم الروم ملوكًا على عرب الشام، وكانت قاعدتهم مدينة بصرى، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالًا لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ، وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جَبَلَة بن الأيهم في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(1/15)
الإمارة بالحجاز
ولي إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طول حياته، وتوفي وله 137 سنة، ثم ولى واحد، وقيل : اثنان من أبنائه : نابت ثم قَيْدار، ويقال العكس، ثم ولى أمر مكة بعدهما جدهما مُضَاض بن عمرو الجُرْهُمِىّ، فانتقلت زعامة مكة إلى جرهم، وظلت في أيديهم، وكان لأولاد إسماعيل مركز محترم؛ لما لأبيهم من بناء البيت، ولم يكن لهم من الحكم شيء .
ومضت الدهور والأيام ولم يزل أمر أولاد إسماعيل عليه السلام ضئيلًا لا يذكر، حتى ضعف أمر جرهم قبيل ظهور بُخْتُنَصَّر، وأخذ نجم عدنان السياسى يتألق في أفق سماء مكة منذ ذلك العصر، بدليل ما جاء بمناسبة غزو بختنصر للعرب في ذات عِرْق، فإن قائد العرب في الموقعة لم يكن جرهميًا، بل كان عدنان نفسه .
وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزوة بختنصر الثانية [ سنة 587 ق . م ] وذهب برخيا ـ صاحب يرمياه النبي الإسرائيلى بَمَعَدّ ـ إلى حران من الشام، فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فلم يجد من جرهم إلا جَوْشَم بن جُلْهُمة، فتزوج بابنته مُعَانة فولدت له نزارًا .
وساء أمر جرهم بمكة بعد ذلك، وضاقت أحوالهم، فظلموا الوافدين إليها، واستحلوا مال الكعبة، الأمر الذي كان يغيظ العدنانيين ويثير حفيظتهم، ولما نزلت خزاعة بِمَرِّ الظَّهْران، ورأت نفور العدنانيين من الجراهمة استغلت ذلك، فقامت بمعونة من بطون عدنان ـ وهم بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ بمحاربة جرهم، حتى أجلتهم عن مكة، واستولت على حكمها في أواسط القرن الثانى للميلاد .
ولما لجأت جرهم إلى الجلاء سدوا بئر زمزم، ودرسوا موضعها، ودفنوا فيها عدة أشياء، قال ابن إسحاق : فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة، وبحجر الركن الأسود فدفنهما في بئر زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا، وفي ذلك قال عمرو :
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفَا ** أنيس ولم يَسْمُر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صُرُوف الليالى والجُدُود العَوَاثِر
ويقدر زمن إسماعيل عليه السلام بعشرين قرنًا قبل الميلاد، فتكون إقامة جرهم في مكة واحدًا وعشرين قرنًا تقريبًا، وحكمهم على مكة زهاء عشرين قرنًا .
واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بنى بكر، إلا أنه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال :
الأولى : الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة، والإجازة بهم يوم النفر من منى، وكان يلى ذلك بنو الغَوْث بن مرة من بطون إلياس بن مضر، وكانوا يسمون صُوفَة، ومعنى هذه الإجازة أن الناس كانوا لا يرمون يوم النفر حتى يرمى رجل من صوفة، ثم إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة، فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس، فلما انقرضت صوفة ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من تميم .
الثانية : الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، وكان ذلك في بنى عدوان .
الثالثة : إنساء الأشهر الحرم، وكان ذلك إلى بنى فُقَيْم بن عدى من بنى كنانة .
واستمرت [ ولاية ] خزاعة على مكة ثلاثمائة سنة . وفي وقت حكمهم انتشر العدنانيون في نجد وأطراف العراق والبحرين، وبقى بأطراق مكة بطون من قريش وهم حُلُول وصِرْم متقطعون، وبيوتات متفرقون في قومهم من بنى كنانة، وليس لهم من أمر مكة ولا البيت الحرام شيء حتى جاء قصى بن كلاب .
ويذكر من أمر قصى : أن أباه مات وهو في حضن أمه، ونكح أمه رجل من بنى عُذْرَة ـ وهو ربيعة بن حرام ـ فاحتملها إلى بلاده بأطراف الشام، فلما شب قصى رجع إلى مكة، وكان واليها إذ ذاك حُلَيْل بن حَبْشِيَّة من خزاعة، فخطب قصى إلى حليل ابنته حُبَّى، فرغب فيه حليل وزوجه إياها، فلما مات حليل قامت حرب بين خزاعة وقريش، أدت أخيرًا إلى تغلب قصى على أمر مكة والبيت .
وهناك ثلاث روايات في بيان سبب هذه الحرب :
الأولى : أن قصيًا لما انتشر ولده وكثر ماله وعظم شرفه وهلك حليل رأى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر، وإن قريشًا رءوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالًا من قريش وبنى كنانة في إخراج خزاعة وبنى بكر عن مكة فأجابوه .
الثانية : أن حليلًا ـ فيما تزعم خزاعة ـ أوصى قصيًا بالقيام على الكعبة وبأمر مكة، ولكن أبت خزاعة أن تمضى ذلك لقصى فهاجت الحرب بينهما .
الثالثة : أن حليلًا أعطى ابنته حبى ولاية البيت، واتخذ أبا غُبْشان . الخزاعي وكيلا لها، فقام أبو غبشان بسدانة الكعبة نيابة عن حبى، وكان في عقله شيء، فلما مات حليل خدعه قصى، واشترى منه ولاية البيت بأذواد من الإبل أو بزق من الخمر، ولم ترض خزاعة بهذا البيع، وحاولوا منع قصى عن البيت، فجمع قصى رجالًا من قريش وبنى كنانة لإخراج خزاعة من مكة، فأجابوه .
(1/16)
وأيا ما كان، فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاهم قصى بمن معه من قريش وكنانة عند العقبة، فقال : نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه فغلبهم قصى على ما كان بأيديهم، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، فبادأهم قصى وأجمع لحربهم، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، ثم تداعوا إلى الصلح فحكَّموا يَعْمُر بن عوف أحد بنى بكر، فقضى بأن قصيًا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكل دم أصابه قصى منهم موضوع يشدخه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة، فسمى يعمر يومئذ : الشداخ .
وكانت فترة تولى خزاعة أمر البيت ثلاثمائة سنة، واستولى قصى على أمر مكة والبيت في أواسط القرن الخامس للميلاد سنة 440 م،وبذلك صارت لقصى ثم لقريش السيادة التامة والأمر النافذ في مكة، وصار قصى هو الرئيس الديني لهذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزيرة .
ومما فعله قصى بمكة أنه جمع قومه من منازلهم إلى مكة، وقطعها رباعًا بين قومه، وأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا عليها، وأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ومرة بن عوف على ما كانوا عليه من المناصب؛ لأنه كان يراه دينًا في نفسه لا ينبغى تغييره .
ومن مآثر قصى : أنه أسس دار الندوة بالجانب الشمالى من مسجد الكعبة، وجعل بابها إلى المسجد، وكانت مجمع قريش، وفيها تفصيل مهام أمورها، ولهذه الدار فضل على قريش؛ لأنها ضمنت اجتماع الكلمة وفض المشاكل بالحسنى .
وكان لقصى من مظاهر الرياسة والتشريف :
1 ـ رياسة دار الندوة : ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسام الأمور، وفيها كانوا يزوجون بناتهم .
2 ـ اللواء : فكانت لا تعقد راية ولا لواء لحرب قوم من غيرهم إلا بيده أو بيد أحد أولاده، وفي هذه الدار .
3 ـ القيادة : وهي إمارة الركب، فكانت لا تخرج ركب لأهل مكة في تجارة أو غيرها إلا تحت إمارته أو إمارة أولاده .
4 ـ الحجابة : وهي حجابة الكعبة،لا يفتح بابها إلا هو، وهو الذي يلى أمر خدمتها وسدانتها .
5 ـ سقاية الحاج : وهي أنهم كانوا يملأون للحجاج حياضًا من الماء، يحلونها بشيء من التمر والزبيب، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة .
6 ـ رفادة الحاج : وهي طعام كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة، وكان قصى فرض على قريش خرجًا تخرجه في الموسم من أموالها إلى قصى، فيصنع به طعامًا للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد .
كان كل ذلك لقصى، وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته، وكان عبد الدار بكره . فقال له قصى فيما يقال : لألحقنك بالقوم وإن شرفوا عليك، فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة واللواء والقيادة والحجابة والسقاية والرفادة، وكان قصى لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع، فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم، ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بنى عمهم عبد الدار في هذه المناصب، وافترقت قريش فرقتين، وكاد يكون بينهم قتال، إلا أنهم تداعوا إلى الصلح، واقتسموا هذه المناصب، فصارت السقاية والرفادة والقيادة إلى بنى عبد مناف، وبقيت دار الندوة واللواء والحجابة بيد بنى عبد الدار . وقيل : كانت دار الندوة بالاشتراك بين الفريقين، ثم حكم بنو عبد مناف القرعة فيما أصابهم، فصارت السقاية والرفادة لهاشم والقيادة لعبد شمس، فكان هاشم بن عبد مناف هو الذي يلى السقاية والرفادة طول حياته، فلما مات خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف، وولى بعده عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعده أبناؤه حتى جاء الإسلام والولاية إلى العباس . ويقال : إن قصيًا هو الذي قسم المناصب على أولاده، ثم توارثها أبناؤهم حسب التفصيل المذكور، والله أعلم . وكانت لقريش مناصب أخرى سوى ما ذكرنا وزعوها فيما بينهم، وكونوا بها دويلة ـ بل بتعبير أصح : شبه دويلة ديمقراطية ـ وكانت لهم من الدوائر والتشكيلات الحكومية ما يشبه في عصرنا هذا دوائر البرلمان ومجالسها، وهاك لوحة من تلك المناصب :
1ـ الإيسار : أي تولية قداح الأصنام للاستقسام، وكان ذلك في بني جُمَح .
2 ـ تحجير الأموال : أي تنظيم القربات والنذور التي كانت تهدى إلى الأصنام، وكذلك فصل الخصومات والمرافعات . وكان ذلك في بني سهم .
3 ـ الشورى : وكانت في بني أسد .
4 ـ الأشناق : أي تنظيم الديات والغرامات، وكان ذلك في بني تَيْم .
5 ـ العقاب : أي حمل اللواء القومى، وكان ذلك في بني أمية .
6 ـ القبة : أي تنظيم المعسكر، وكذلك قيادة الخيل، وكان في بني مخزوم .
7 ـ السفارة : وكانت في بني عدي .
(1/17)
One Comment